الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
45 - رقم الاستشارة : 1867
07/05/2025
هل تحتاج عقولنا وأفكارنا إلى قيمة الرضا؟ وهل الرضا قضية تحسم في العقل أولا ثم تتنزل في السلوك؟
سؤالكم عن حاجة عقولنا إلى قيمة الرضا، وأن الرضا مسألة تحسم في داخل الإنسان أولاً، ثم تتنزل في سلوكيات وأخلاقيات، يعد سؤال العصر الذي نعيش فيه؛ فالرضا هو إحدى القيم الكبرى المفقودة في حياتنا، بعدما تسلل اليأس إلى العقول والقلوب، وأنتج الكثير من التشوهات في حياتنا من اكتئاب وإدمان وأمراض نفسية وبدنية.
والحقيقة أن سؤالكم يتناغم مع كثير من الدراسات الغربية الحديثة التي ناقشت مسألة الرضا، وعلاقة الرضا بالصحة والرفاهة النفسية.
والرفاهة النفسية تعني تحقيق الذات، ووجود غاية وهدف للحياة، أي أن الحياة ذات معنى، ووجود قدر من التصالح مع أحوال الشخص من هيئة ومظهر ولون بشرة... إلخ، ووجود قدر مقبول من تقبل تقلبات الدهر.
تشير الدراسات النفسية إلى أن غياب المرض العقلي أو النفسي لا يعني أن ذلك يمنح الإنسان السعادة والرفاهية النفسية، فقد لا يعاني شخص ما من مرض عقلي أو نفسي، لكنه يفتقد الرفاهة النفسية أو السعادة، والسر الكامن هو غياب الرضا عن الذات والدور والضعف في مواجهة تقلبات الحياة، لذا اعتبرت بعض الدراسات النفسية أن الرفاهية وسيط للصحة النفسية والعقلية.
خلصت دراسة غربية صدرت عام 2019م بعنوان "العلاقة بين الرضا عن الحياة وأعراض الاكتئاب" إلى أن الرضا عن الحياة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاكتئاب، وأنه يمكن استخدام الرضا كمؤشر صحي لتحديد الأفراد المعرضين للاكتئاب، وتم تطوير مقاس للرضا عن الحياة هو " SWLS" على اعتبار أن الرضا عن الحياة هو حكم معرفي عن الحياة.
تلعب الثقافة دورًا مهمًّا في بناء مفهوم الرضا، وتحقيقه؛ فالإنسان يدرك الكثير مما يعيشه من خلال مرآته الداخلية، ومن ثم فهو الذي يعطي الإذن لتأثيرات الأحداث وتقلبات الحياة أن تخترق أعماقه، ولعل هذا ما يجعل المؤمن وغير المؤمن لا يقفان على مسافة واحدة من أقدار الحياة.
والرضا هو حكم معرفي بإزاء الحياة، وهذا ما أكده "تشارلز سبورجون" الواعظ البريطاني الأكثر تأثيرًا في القرن التاسع عشر، فقال: "لو كان لديّ القليل لأصبحتُ راضيًا جدًّا... أنت تخطئ... إن لم تكن راضيًا بما لديك، فلن ترضى حتى لو تضاعف"، فليس القليل أو الكثير هو ما يحقق الرضا، ولكن القناعة الداخلية والرؤية المعرفية والاعتقادية في التعامل مع الحياة هي من يضع الشخص على عتبات الرضا، أو في طريق السخط والقنوط.
أما الفيلسوف "إريك فروم" الذي شغلته قضية المعنى للإنسان المعاصر، فكتب أن تسليع الإنسان المعاصر أفقده الرضا، فصار معيار الرضا استهلاكيًّا، أي أن معايير الرضا تحولت لتكون مادية بحتة، وهذا التحول الكبير أفقد الإنسان سعادته ورضاه وزاد من سخطه، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي أشعرت الإنسان بالحرمان.
يقول فروم: "لقد حوّل الإنسان المعاصر نفسه إلى سلعة؛ فهو يختبر طاقة حياته كاستثمارٍ ينبغي أن يحقق منه أعلى ربح، بالنظر إلى مكانته ومكانته في سوق الشخصية. إنه منعزل عن نفسه وعن رفاقه وعن الطبيعة. هدفه الرئيسي هو التبادل المربح لمهاراته ومعارفه، وذاته، مع آخرين يسعون بنفس القدر إلى تبادل عادل ومربح. لا هدف للحياة إلا الحركة، ولا مبدأ إلا التبادل العادل، ولا رضا إلا الاستهلاك".
نشير هنا إلى الكاتب والموسيقي الأمريكي "ميتش ألبوم" الذي حقق مبيعات لكتبه فاقت الأربعين مليون نسخة، فقد تحدث عن تأثير الاختلافات الثقافية على الرضا كقيمة ومفهوم في كتابه "تحلَّ بقليل من الإيمان"، ونبه إلى أن كثيرًا مما نراه اكتئابًا لدى الكثير من الأشخاص ليس كذلك، وإنما هو عدم رضا، وخلص أن "السعادة يكمن سرها في الرضا".
والسؤال هنا كيف نعدل ونغير أفكارنا نحو الرضا كقيمة معرفية وأخلاقية، وكدرع واقية من أمراض هذا العصر المادي؟
الحقيقة أن الإجابة عن هذا الإشكال ليست يسيرة، ولكن من الممكن أن ننبه إلى بعض من اجتهادات علماء التربية والأخلاق في التراث الإسلامي، فنجد مثلا "ابن عطاء الله السكندري" يقول: "الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد"، والإمام الجنيد يقول: "الرضا ترك الاختيار".
والحارث المحاسبي، يقول "الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم"، وقال أيضا: "لم يزل العارفون يحفرون خنادق الرضا، ويغوصون في أنهار الرجا، ويستخرجون جواهر الصفا، حتى وصلوا إلى الله عز وجل في السر والخفا"... وهذا الكلام معرفي، في مواجهة تقلبات الدهر، ورؤية تؤثر على أفكارنا فتقوي صمودنا وصلابتنا النفسية.