الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : مفاهيم
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
77 - رقم الاستشارة : 2876
04/10/2025
هل تحدث علماء التربية والأخلاق المسلمون عن مفهوم السعادة وكيف نظروا إليه وإلى دوره التربوي والإصلاحي؟
السعادة من القضايا الكبرى التي انشغل بها الفكر الإسلامي، فتساءل عن ماهية السعادة، ومسبباتها، وهل تتعلق بالجسد وملذاته، أم بالعقل ومعارفه، أم بالروح ومشاعرها، أم بكل ذلك جميعًا، كما تساءل عن تحققها في الدنيا، أم أنها تتعلق بالآخرة في الوصول إلى جنة الخلود والزحزحة عن النار.
مفهوم سلوكي فكري
السعادة من المفاهيم السلوكية الأخلاقية والفكرية الفلسفية، وهو مفهوم متميز في الفكر الإسلامي، فهو ضد الشقاوة والشقوة، ومن تعريفاته المتميزة في المجال التداولي الإسلامي هو الرضا التام بما تناله النفس من الخير، وذهب آخرون إلى أن السعادة هي معاونة الخالق سبحانه وتعالى للإنسان على فعل الخير.
ولعل أهم ما يميز السعادة في الرؤية الإسلامية، هو السعي لتخليص المفهوم من الاقتصار في تعريفه على الأشياء الحسية المادية، والانتقال بالمفهوم إلى مساحات الارتقاء الروحي النفسي، والانتقال بالمفهوم إلى مجال التربية والإصلاح الاجتماعي، فرأى بعضهم أن السعادة هي نوع من الاستكمال، أي سعي الإنسان لاستكمال ما نقص عنده من صحة أو فقر، وهي مطلوبة في ذاته قبل أن تكون وسيلة، ولعل كلام الفيلسوف الفارابي ذو أهمية في هذا الشأن فقد قال: "السعادة من الخيرات أعظمها خيرًا، ومن بين المؤثرات آثر وأكمل من كل غاية سعى الإنسان نحوها"، وهناك من رأى أن السعادة هي العيش بفضيلة إلى نهاية العمر.
لم يغفل علماء التربية والأخلاق المسلمون أهمية الماديات في تحقيق السعادة، لكنهم لم يبالغوا في تقدير وزنها في إحلال السعادة في النفس.
ونلاحظ أن هؤلاء العلماء والفلاسفة عندما نظروا إلى السعادة في الدنيا لم يبالغوا في تقديرها، ولم يجعلوها سعادة خالصة بلا شائبة، ولكنهم نبّهوا العقل والروح إلى أن الحياة لا تخلو من الأكدار والمنغصات.
ونبّهوا كذلك إلى أن السعادة في الدنيا ليست محطة وصول نهائية لا شقاء بعدها، وأن الوصول لتلك السعادة يكون بعد جهد ومجهود وتعب في غالب الأحيان، كما أنه لا توجد سعادة بلا ثمن، وأن استدامة السعادة يحتاج إلى شكر للخالق سبحانه وتعالى، ويحتاج إلى صيانة وحفظ لتلك النعمة من خلال استخدامها فيما ينفع وعون الآخرين وإشراكهم في تلك النعمة والسعادة من خلال العطاء والنفع.
كل تلك التنبيهات التي أشارت إليها الرؤية الإسلامية جعلت العقل يتعامل مع السعادة بواقعية، ومن ثم كان وقع الصدامات أخف على النفس إذا تكدر صفو السعادة، وكان الشاعر الصوفي شمس التبريزي يقول: "يا أيها المسافر لا تعلق القلب بمنزل ما بحيث تحزن عندما تغادره"، فإذا قل ما يفرح الإنسان به، قل ما يحزن عليه.
مفهوم للإصلاح
كان أحمد بن محمد مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" يرى أن السعادة ليست في إراوء النفس من الشهوات، وإشباع الجسد من الحاجات، فالإنسان نفخة علوية سماوية تحتاج الى إشباع روحي، والسعادة المطلوبة ليست في تحصيل الموجودات، ولكن في السعي الحثيث نحو السعادة الأبدية، وكان يقول: "من رضي لنفسه بتحصيل اللذات البدنية، وجعلها غايته، وأقصى سعادته، فقد رضي بأخس العبودية، لأخس الموالي؛ لأنه يصيّر نفسه الكريمة عبدًا للنفس الدنيئة".
أما فخر الدين الرازي في كتابه "النفس والروح" فساق الكثير من الحجج ليؤكد أن السعادة منبعها الروح والعقل وليست الغرائز، فقال: "إن الإنسان يشاركه في لذة الأكل والشرب جميع الحيوانات، حتى الخسيسة منها، فلو كانت هي السعادة والكمال، لوجب ألا يكون للإنسان فضيلة في ذلك على الحيوانات".
وذهب كثير من فلاسفة الإسلام إلى أن السعادة هي سعي دائم لتحصيل الكمال الإنساني، فأبو نصر الفارابي في كتابه "تحصيل السعادة" اعتبر العقل هو منبع السعادة، ولذا لا يتحصل الإنسان على السعادة إلا من خلال الفلسفة، وقال: "الفلسفة هي التي بها ننال السعادة".
ومن علماء الأخلاق والمتصوفة من تحدث أن السعادة تكمن في الروح من خلال تطهير النفس وتزكيتها من الحسد والغل والحقد وشواغل الدنيا التي تعكر صفوها، وأن تكون للإنسان خلوة صافية مع خالقه يتنسم فيها حبه ومعرفته، ويتطلع إلى موعوده في السعادة الدائمة وفي الخلود في الجنة، ولا شك أن ذلك من عوامل الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي في المجتمع.
أما الفيلسوف الطبيب ابن سينا فيذهب إلى أن السعادة الحقيقية لا تكون بالحس ولا بالبرهان، بل بالتحلل من إسار الجسد والاتصال بالعالم القدسي النوراني، والسبيل في ذلك هو القلب والروح وتطهير النفس الناطقة.
ما يطرحه ابن سينا هو أن السعادة الحقيقية هي التحليق بعيدًا عن المادة المتمثلة في الجسد والارتقاء إلى العالم القدسي الذي جاءت منه الروح، هذا التحليق في الفضاء البعيد كفيل بأن يحقق السعادة الحقيقية وليست السعادة الموهومة.
ومن الرائع أن ابن سينا استحضر الطب عند مناقشته لحقيقة السعادة، ورأى أن انشغال النفس بالبدن عن الارتباط بالعالم القدسي، هو أشبه بالمخدر، الذي يُنسي النفس الأوجاع الناجمة عن ذلك الانفصال، فإذا زال ذلك المخدر شعرت النفس بأوجاعها وشقوتها وغياب سعادتها.
روابط ذات صلة:
هل تغير مفهوم الشكر مع المادية؟
لماذا نفتقد السعادة في حياتنا؟
ما المقصود بغياب المعنى وتأثيره على الإنسان؟
الحياة الطيبة.. مفهوم للإصلاح الاجتماعي