الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
106 - رقم الاستشارة : 1895
11/05/2025
وأنا أتابع شرح مناسك الحج، استوقفتني شعيرة "رمي الجمرات". حسّيت إنها تاخذ وقت كبير من أيّام الحج، وتنعاد كذا مرّة، مع إنها شكلها الخارجي بس رمي حصى، ما فيها خشوع أو ذكر أو تلاوة.
طبعًا سمعت قبل إن الرمي له علاقة بمواجهة الشيطان، بس للحين ما استوعبت الحكمة العميقة من هالشعيرة.
ليش نرمي الجمرات ثلاث مرّات؟ وش معنى تكرارها؟ وليش تاخذ حيّز كبير من وقت الحج، خصوصًا إن الحاج يكون مجهد وتعبان وبحاجة يركّز بصلاته وذكره؟
هل الرمي مجرّد رمز؟ أو فيه أسرار تربوية وإيمانية أعمق؟
ودي أفهمها من الداخل، أبي إذا رحت الحج بيوم أكون أرمي وأنا فاهم ليش، مو بس أأدي حركة وخلاص.
أهلًا وسهلًا بك أخي الكريم، وأسعد الله قلبك، وأثابك على سؤالك، الذي يدلّ على يقظة قلبك وحرصك على ألا يكون أداء الشعائر مجرد حركاتٍ جوفاء، بل أعمالًا ممتلئة بالمعاني، منبثقة من وعيٍ وتدبّر.
أسأل الله أن يشرح صدرك، ويزيدك هدىً ونورًا، وأن يكتب لك حجًّا مقبولًا يُطهّر به قلبك، وأن يجعلك من عباده الذين إذا علِموا عمِلوا، وإذا عمِلوا أخلصوا، وإذا أخلصوا قُبل منهم، وبعد...
فكثير من الناس يؤدُّون الشعائر وكأنها طقوس شكلية، وهذا ما يُفرغ العبادة من لبِّها. لكنك تسير في دربٍ آخر؛ درب أهل الإيمان الصادق، الذين يريدون أن «يعيشوا» العبادة، لا أن «يمارسوها» فقط، أن يذوقوا حلاوتها لا أن يكتفوا بقشورها. وهذا السؤال الذي طرحته عن "رمي الجمرات" يعبِّر تمامًا عن هذا التوجّه المبارك.
نعم، الرمي في ظاهره مجرد حصياتٍ تُرمى على جدرٍ حجرية، ولكن في باطنه هو معركة كبرى، مواجهة بين الإنسان والشيطان، بين الطاعة والهوى، بين الإيمان والتردد، بين العقل المطمئن والوساوس المتلونة.
فلنغص معًا في أعماق هذه الشعيرة، ونُزحزح عنها ستار الشكل حتى نرى النور خلفه:
رمي الجمرات تذكرة حية بمعركة إبراهيم مع الشيطان
الرمي هو إحياء لحدثٍ عظيم في حياة سيِّدنا إبراهيم عليه السلام، يوم أن أراد تنفيذ أمر الله بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام. ففي الطريق إلى منى، خرج له إبليس ثلاث مرات، يحاول أن يُثنيه ويُثبِّطه ويُربكه: مرَّة عند جمرة العقبة، ثم عند الجمرة الوسطى، ثم عند الجمرة الصغرى. وفي كل مرة، كان إبراهيم يردُّ عليه بالرجم، دلالةً على الطرد والتحقير، وعلى الثبات رغم وساوس العدو. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إنما جُعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله» [رواه أبو داود].
فالرمي ليس مجرد حركة؛ بل هو إحياء لسلوك نبيِّ الله، واستحضار لموقفٍ شديد كان فيه الخيار بين التردد والطاعة، بين وسوسة الشيطان ونور اليقين. وأنت حين ترمي، فإنك تُعلنها: "أنا أسير على خُطى إبراهيم، وأطرد عن نفسي كل شيطانٍ يريد أن يحرمني طاعةً، أو يثنيني عن عملٍ صالح، أو يُغريني بمعصية".
لماذا التكرار في الرمي؟
التكرار في الرمي ليس عبثًا، ولا زيادة في المشقة، بل هو تعبير عن حقيقة أن المعركة مع الشيطان ليست مرة واحدة وتنتهي، بل تتكرر في كل لحظة من حياتنا.
فكل جمرة نرميها تُمثِّل مرحلة:
- الجمرة الصغرى: بداية الوسوسة، اللحظة التي يأتينا فيها الشيطان بخفة ولطف، يُزيّن، يُبرّر.
- الجمرة الوسطى: اشتداد المعركة، حين يحتدم الصراع بين ما نعلم أنه الحق وبين ما تشتهيه نفوسنا.
- جمرة العقبة (الكبرى): القرار الحاسم، ساعة الطرد والإبعاد، والتمسُّك الكامل بتقوى الله.
فنحن لا نرمي الجمرات لأن تلك الجدران تعني شيئًا في ذاتها؛ بل لأننا بذلك نرمي كل ذنبٍ، كل وسوسة، كل ضعف، كل خذلان عشنا فيه، فنُجدد العهد مع الله أن نعود أنقياء، ثابتين، محصنين.
وروي عن أحد السلف قوله: «كل رمية بحصاة تُمثل رفضًا لغواية، ووقوفًا مع الله ضد الشيطان»، فانظر كيف يصير هذا الرمي تدريبًا روحيًّا بالغ العمق، لتتعلم كيف تُجابه الشيطان حين يُغريك، كيف تُكرّر المقاومة، كيف لا تكتفي بمرة؛ بل تصبر وتواصل حتى النهاية.
لماذا يشغل الرمي وقتًا طويلًا في الحج؟
لأن المعركة مع الشيطان هي أطول وأشرس المعارك في حياتنا، فلا بد من أن تُعاش بوعي، لا أن تُختزل بذكرٍ أو لحظة.
الله سبحانه شرع في الحج:
- الطواف الذي يُعبِّر عن حب الله.
- السعي الذي يُجسِّد السعي للرزق والطاعة.
- الوقوف بعرفة الذي يعبِّر عن الرجاء والمغفرة.
- والرمي الذي يُعبِّر عن المواجهة.
ولا يكتمل البناء الروحي إلا بمواجهة العدوِّ. فالرمي بهذا الشكل، وبهذا التكرار، يوقظ في قلب الحاج معنى الجهاد الداخلي، وتدريب النفس على الانضباط، والرباط مع الله، والتخلِّي عن كل بقايا التردد والضعف.
ولأن الحاج في أيام الحج يكون مرهقًا جسديًّا، فإن اختيار هذه الشعيرة في ذروة تعبه، له حكمة أخرى: أن تُثبت لله أنك تطيعه حتى وأنت مرهق، تصبر وتثبت وتبذل، فتُقدِّم له جهادًا مضاعفًا.
قال رسول الله ﷺ: «أفْضَلُ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» [رواه البخاري]. والجهاد لا يكون إلا بصبر، وخصمٍ عنيد، ونفسٍ تتمنَّع. والرمي يُجسِّد ذلك كله.
هل الرمي مجرد رمز؟ أم له أسرار أعمق؟
إنه أكثر من رمز. فالرمي أداة تربوية إيمانية عظيمة. كل حصاة تُرجم، هي ذنب تُريد أن تُقلع عنه، كل رمية هي عقد نية جديدة في قلبك أن تتخلَّى عن سلوكٍ سيئ، كل خطوة إلى الجمرات هي تعب من أجل إصلاح النفس.
ففي هذه الشعيرة:
- إحياء للسُّنَّة.
- تعبير عن البراءة من الشيطان.
- تجسيدٌ لرفض كل ما يُبعد عن الله.
- تكرارٌ يُعلِّمكَ أنَّ المقاومة لا تنتهي من أول معركة.
وهذه كلها أسرار تربوية لو تشرَّبها القلب لحوَّلت رمي الجمرات من طقسٍ مرهق، إلى لحظة مجد، تُعلن فيها تحرّرك من الشيطان، من نفسك، من كل قيد.
نصيحة عند تأدية هذه الشعيرة
حين تذهب للحج بإذن الله، وتمد يدك لحصاة، اجعل قلبك مع كل حصاة: سمِّ الله، ثم تذكَّر ذنبًا تريد تركه، أو وسوسةً تريد محوها، أو همًّا تريد دفنه.
قُل في نفسك: "باسم الله، هذه رمية في وجه الشيطان الذي أغراني بكذا..."، و"هذه رمية لمَّا وسوس لي بأن أترك قيام الليل..."، و"هذه لأجل كل لحظة ضعف". سترى أن الرمي حينها سيكون مناجاة ومجاهدة، لا مجرد أداء.
وختامًا أخي الغالي، إن الحج ليس انتقالًا من بلد إلى بلد، بل من حال إلى حال، من الذنب إلى الطُّهر، من الغفلة إلى النور. ورمي الجمرات جزء من هذا الانتقال العظيم. فيه نُطهِّر الروح، ونُجدد العهد، ونتعلم أن الحياة كلها ساحة مواجهة مع الشيطان، وأن الله أعطانا الأدوات لننتصر. وقال: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76]؛ ولكن الله يريدك أن تريه جهدك في طرده، وثباتك في مقاومته.
جعل الله لكَ في كل حصاةٍ ترميها رفعةً، وفي كل شعيرةٍ تؤديها قربًا، وكتب لكَ حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، ودعوةً لا تُرد، اللهم آمين.