الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
131 - رقم الاستشارة : 1862
10/05/2025
بقالي فتة بحاول ألتزم وأقرّب من ربنا، وبصلي وبقرأ قرآن وابتعدت عن حاجات كتير كانت بتبعدني عن ربنا. بس اللي مخليني قلقان إن كل تفكيري تقريبا بيبقى في العذاب والنار والعقوبة، والخوف هو اللي بيخليني أتحرك للطاعة أكثر من الشوق للجنة ونعيمها.
حاسس إني مش بشتاق للجنة زي ما بخاف من النار، وكإن قلبي اتعود على الرهبة، ونسي الرجاء. ده مأثر عليا، ساعات بحس إني تايه أو مش مرتاح، وكأن الطاعة عبء.
أنا عايز أوصل لحالة توازن، أبقى بخاف من ربنا، بس كمان أشتاق لرضاه وجنته، ويكون ده دافع ليا في كل عمل بعمله. إزاي أقدر أحقق المعادلة دي؟
مرحبًا بك أخي الكريم، وأسأل الله أن يجعلنا عند حسن ظنِّك، وأن يربط على قلبك، ويزيدك هدى ونورًا ويقينًا، وأن يرزقك لذة الإيمان وحلاوة القرب من الله، وأن يُبلِّغك منازل الرضا والطمأنينة، وبعد...
فمن رحمة الله بك أنه أوجد هذا الاضطراب بداخلك؛ لأنه طريق التعديل، ومفتاح الوصول. فكن مطمئنًا أخي الحبيب، فما دام قلبك يتحرَّك بهذه المشاعر، ويسعى للتوازن، فأنت في خيرٍ عظيم، وبإذن الله قريب من النجاة والوصول.
لماذا يغلب علينا الخوف أحيانًا أكثر من الرجاء؟
غلبة الخوف على القلب في مرحلة من مراحل القرب من الله أمرٌ طبيعي جدًّا، بل هي في بدايات الطريق علامة خير. وقد أشار العلماء إلى أن الإنسان في أول مراحل التوبة والرجوع إلى الله يغلب عليه الخوف؛ لأن قلبه يخرج من ظلمات المعصية، فيُبصر فداحة ما كان فيه، ويستشعر هول الحساب والعقاب، فيكون الخوف كوقودٍ يدفعه للاستقامة.
وهذا المعنى ذكره الإمام ابن القيم حين قال في «مدارج السالكين»: «فأوّل السير إلى الله يكون بالخوف، فإذا استقرت المعرفة والمحبّة، صار الخوف تابعًا لا غالبًا».
وهذا تمامًا ما تمرُّ به الآن؛ فالخوف هو المحرِّك الأول، وهذا لا يُعاب، بل هو نعمة في البداية. لكن القلب النقي لا يرضى أن يبقى في حالة خوف فقط، فيشتاق لحالة الرجاء والطمأنينة، فتبدأ رحلة التوازن.
الخوف والرجاء جناحا المؤمن:
الخوف وحده قد يُوقع الإنسان في اليأس، والرجاء وحده قد يُوقع في الأمن الكاذب؛ لذا يجب أن يجتمعا معًا كجناحين للمؤمن لا غنى له بأحدهما عن الآخر، كي يحلق قلبه بهما في أجواء الصلة بالله.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذا المعنى، فقال: «القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه». فتأمل الجمال في هذا التشبيه: لو كُسر جناح الخوف طاش القلب، ولو كُسر جناح الرجاء هلك؛ لكن إن طار القلب بهما، ووجَّه رأسه إلى المحبة، وصل إلى الله.
ولهذا جاءت التربية القرآنية متوازنة بين الاثنين، فجمع الله -عز وجل- بينهما في كثير من الآيات، منها: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49 و50]، فبدأ بالغفران والرحمة، ثم أتبعها بالتحذير من العذاب، حتى لا يغلب جانبٌ على آخر. وقال سبحانه: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة: 16].
لماذا تشعر بأن الطاعة عبء وليست شوقًا؟
أحيانًا، حين نُطيح بالرغبة الطبيعية، ونفرض على أنفسنا طاعات بلا حب، أو نحصر علاقتنا بالله بالخوف والعقاب فقط، تصبح العبادة ثقيلة.
لكن الله قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]، فالخشوع –وهو حضور القلب مع الله– هو ما يجعل الصلاة لذَّة لا عبئًا، والقرآن راحةً لا واجبًا.
لكي تشعر بلذَّة الطاعة، لا تؤدِّها فقط لتنجو من النار، بل أدِّها لأنها باب الحديث مع الحبيب، باب القرب من الله، باب النظر في وجهه الكريم يومًا ما.
وتأمَّل كيف كان النبي ﷺ يجد راحته في الصلاة، حيث كان يقول لمؤذنه: «يا بلالُ، أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها» [رواه أبو داود].
كيف تزرع الرجاء والاشتياق إلى الجنة في قلبك؟
1- اقرأ عن الجنة وتأمَّل تفاصيلها:
كثيرًا ما يغيب الرجاء عن القلب، لا لشيء إلا لأن الجنة أصبحت في أذهاننا فكرة غامضة، لا صورة حيَّة. والقرآن لم يترك الجنة غامضة، بل فصَّلها تفصيلًا، وضرب لها الأمثلة في كثير من الآيات، لتقريب صورتها إلى الأذهان، ومنها:
﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ [محمد: 15].
وقال عز من قائل: ﴿والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وأَبَارِيقَ وكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنهَا ولاَ يُنْزِفُونَ * وفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * ولَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا * إلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا * وأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وظِلٍّ مَّمْدُودٍ * ومَاءٍ مَّسْكُوبٍ * وفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ * وفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ اليَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة: 10- 40]
فاقرأ يا أخي في القرآن وتفاسيره عن أنهار الجنة، عن قصورها، عن نعيمها الذي لا يفنى، عن لقاء الله، عن نظر الوجوه إليه وهي نضرة، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22 و23]، وستجد قلبك ينبض شوقًا.
2- استحضر رحمة الله دائمًا:
قال رسول الله ﷺ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ برحمةٍ منه وفضلٍ» [رواه مسلم]. فلو كانت الجنة تُنال بالعمل فقط، لضاعت منَّا؛ لكنها تُنال برحمة الله، ونحن نُطيع لنكون أهلاً لهذه الرحمة.
حين تفكر في الله بوصفه رحيمًا، يتحوَّل وجه العبادة في قلبك من خوفٍ إلى شوق. قال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي» [رواه البخاري]، فابدأ بالظن الحسن، وتعلَّق بالرجاء.
3- تذكّر أن الله يحبك:
قد يعظُم علينا أحيانًا تصديق هذه الحقيقة: أن الله يحبنا، ويقبلنا رغم ذنوبنا، ويفرح بتوبتنا. قال رسول الله ﷺ: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بتَوْبَةِ أحَدِكُمْ، مِن أحَدِكُمْ بضالَّتِهِ، إذا وجَدَها» [رواه مسلم].
4- ابدأ يومك بآية ترجو فيها رحمة الله:
مثل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، واقرأ تفسيرها، وتذوَّق كلماتها.
5- طالع أحاديث الرجاء:
كحديث الشفاعة، وحديث دخول الجنة بغير حساب، وأحاديث فضل التوبة. واحفظ وردد أدعية الرجاء، مثل دعاء النبي ﷺ: «اللهم إني أسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول أو عمل» [رواه النسائي].
6- استحضر نية الحب في كل طاعة:
كل طاعة تقوم بها، وكل عبادة تؤديها، استحضر في قلبك حب الله فيها، وشكره على نعمه، وابتغاء رضوانه، قل: «يا رب، أعبدك لأنك أهل للعبادة، لأنك كريم، لأنك عفو، لأنك مُنعم، لأني أحبك».
وختامًا أخي الحبيب، اعلم أن الله لا يريد منك عبادة دافعها الخوف وحده، بل يريد قلبًا حيًّا يحبه ويخشاه، وكلما خطوت خطوة نحوه أدناك منه، قال تعالى في الحديث القدسي: «من تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» [رواه البخاري].
فامضِ ولو كان في قلبك خوف، واستعن بالله، وسلْه أن يزرع فيك المحبة والشوق، وسترى قلبك كيف يتبدَّل، وكيف تنقلب العبادة لذةً، والطاعة حبًّا، والقرب نعيمًا.
أسأل الله أن يبلغك مقام الخاشعين، وأن يملأ قلبك رجاءً ومحبَّة، ولا تنسنا في دعائك.