الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : مفاهيم
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
97 - رقم الاستشارة : 2830
29/09/2025
هل يمكن أن تكون لنا مصطلحات خاصة بنا ومفاهيم نستطيع أن نطرحها على أرضية إسلامية ويحضرني هنا أن أسأل عن مفهوم الحياة الطيبة، ما هو المقصود بها في الرؤية الإسلامية؟
أخي الكريم، لا شك أننا في حاجة إلى أن تكون كثير من مفاهيمنا ومصطلحاتنا من إنتاج رؤيتنا القرآنية، وأتذكر في حديث لأحد المفكرين أنه حذّر من أن بعض المتدينين المخلصين قد يكون تكوينه العقلي والفكري مرتكزًا على أسس علمانية أو أسس غير نابعة من الإسلام ذاته.
ولعل هذا التحذير هو ما يستوجب علينا أن نبذل جهدًا فكريًّا ومعرفيًّا في التعمق فيما طرحه القرآن الكريم من مفاهيم ومصطلحات، والسعي لصياغتها صياغة نظرية محكمة وطرحها في المجال التداولي لتنافس وتزاحم المفاهيم والمصطلحات التنافسة في مجال الإصلاح الاجتماعي، ومن المفاهيم التي طرحها مفهوم الحياة الطيبة.
الحياة الطيبة.. اختيار
الحياة الطيبة هي غاية البشر في كافة المناحي المعاشية والنفسية والاجتماعية والعلمية، لكن أهم ما يميز ذلك المفهوم الذي تحدث عنه القرآن الكريم هو عدم الفصل بين الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبين العمل الصالح، ومفهوم العمل الصالح يتسع ليشمل العبادات والشعائر والمعاملات وكل عمل نافع يرضاه الشرع ولا يمانعه.
وهذا التلازم بين الإيمان ومفهوم العمل الصالح هو ما ينتج الحياة الطيبة، وهذا التلازم هو ما تسعى العلمنة لإنهائه، وهذا التلازم ما يخلق المعنى للحياة الإنسانية، ويحفز الإنسان على إصلاح نفسه ومجتمعه وإعمار الأرض، وإيجاد بيئة صالحة لكل إصلاح وعمل نافع.
الحياة الطيبة في حقيقتها اختيار يميز فيها الإنسان بين الطيب والخبيث، وليست حياة قهرية إجبارية، ولكن يختارها الإنسان عن قناعة لإيمانه بالخالق سبحانه وتعالى، وقناعته أنها الحياة الأفضل والأنفع والأصلح له في الدنيا والآخرة.
وفي تلك العملية الاختيارية الطوعية للحياة الطيبة، فإن الإنسان المسلم يمتلك مهارة الفرز والموازنة بين منظومات القيم والأفكار والأيديولوجيات المختلفة وبرامج الإصلاح والتنمية لاختيار أفضلها وأنفعها بما لا يتعارض مع الإسلام.
مفهوم قرآني
الحياة الطيبة، مفهوم قرآني بامتياز، وهذا المفهوم ذو ارتباط وثيق بحياة الإنسان اليومية ومعاشه، فهي الحياة الكريمة الراضية المطمئنة التي يتوفر فيها الدخل الكافي والصحة والعافية والأمن والسلامة والأمل الفسيح في المستقبل.
وللحياة الطيبة مظاهر خارجية، من الرزق الطيب الحلال الكافي، والصحة، والأمن، ومشاعر وجدانية نفسية داخلية كالرضا والقناعة وراحة البال والتفاؤل.
والطيب كما تشير دلالات اللغة هو ما يلائم النفس ولا يتنافر معها، وهو مقابل الخبيث الذي ترفضه الفطرة السليمة ولا تقبله، وورد لفظ الطيب في القرآن بعدة معان منها: الصالح، والحسن، والسائغ، واللذة.
وورد ذكر الحياة الطيبة في القرآن، في سورة النحل الآية (97) في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طيّبة وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
يميل الإمام الفخر الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" إلى الرأي القائل بأن تلك الحياة الطيبة تحصل في الدنيا، وأورد مجموعة أقوال في ماهيتها الدنيوية، ومما قيل في ذلك إنها قد تكون: الرزق الحلال، وعبادة الله مع أكل الحلال، وقيل القناعة "لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبدًا في الكد والعناء".
وذكر الرازي أن عيش المؤمن في الحياة الدنيا أطيب من عيش غير المؤمن، لأسباب منها: "إيمانه بأن الرزق بيد الله وهذا يخلق حالة من طمأنينة النفس والرضا عن الحال والحياة، وأن المؤمن يستحضر دومًا في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها، وعلى تقدير وقوعها يرضى بها؛ لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل".
خصائص الحياة الطيبة:
تتميز الحياة الطيبة بعدة خصائص تميزها عن غيرها، منها:
* الإيـــمان: فالإيمان بالخالق سبحانه وتعالى هو أهم ما يميز تلك الحياة، فبعض المجتمعات تتمتع بوفرة اقتصادية، وحياة آمنة، لكن انقطاع صلتها بالسماء يفقدها الطمأنينة ويحرمها من المعنى والغاية التي تعد من أهم الركائز التي يمنحها الدين للإنسان.
* الشــــمول: فهي تشمل جوانب الحياة المختلفة لإنسان، دون فصل بين ما هو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو أسري أو بيئي.
* الوسطية والاعتدال: فالحياة الطيبة لا تعرف التطرف أو التراخي، ولكنها وسط معتدلة بلا إفراط ولا تفريط، فهي تعطي لكل ذي حق حقه، ولعل هذه الخصيصة هي من خصائص الإسلام الكبرى.
* إنسانية الحياة الطيبة: والمقصود بذلك أنها جاءت لنفع الإنسان وإيجاد الخير له، فهي ليست حياة استغلالية أو شيوعية، ولكنها حياة تنبض بكل الأبعاد الإنسانية، وتفعل منظومة القيم الإنسانية الإسلامية في التراحم والتعاون والتكافل والإخاء والتناصر، والتواصي بالحق والعفة والطهارة والجمال، ورفض الظلم والقهر.
ومن إنسانية الحياة الطيبة أن الجميع ينعم بها في المجتمع، سواء المسلم وغير المسلم، وحتى البيئة بما فيها من مخلوقات ونبات وحيوان وطبيعة.
وأخيرًا -أخي الكريم- فإن الحياة الطيبة لا تعني أن تكون حياة بلا مشاكل ولا ضغوط، ولكن تعني أن تكون حياة لها معاييرها الصالحة التي تقيس عليها أي انحراف عن هديها ومعالمها، وكذلك وجود منهج لعلاج الأخطاء وتقويمها.
روابط ذات صلة: