الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
20 - رقم الاستشارة : 1897
10/05/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا أم لثلاثة أبناء، أكبرهم يبلغ 16 عامًا، وقد قررنا هذا العام أداء فريضة الحج أنا ووالده وأصغر أبنائنا (10 سنوات)، بينما طلبنا من ابننا الأكبر أن يرافقنا لأنه في سنّ التمييز والتكليف، لكننا فوجئنا برفضه الشديد، بحجّة أنه لا يشعر بارتياح للالتزام الديني، وأنه يريد قضاء الإجازة مع أصدقائه في السفر والترفيه.
حاول والده إقناعه بالعقل واللين، ثم بالغضب والحزم، دون جدوى. وهو الآن منغلق على نفسه، ويتصرف بتحدٍّ واضح، ويقول إنكم "تأخذونني إلى الحج بالإجبار".
أنا في حيرة شديدة بين خوفي من إجباره فيكره العبادة، وقلقي من تركه وحيدًا، خاصة أن سلوكياته في الفترة الأخيرة لا تُطمئنني، كما أنني لا أريد أن ينشأ في قلبه نفور من شعائر الدين.
كيف أتعامل مع هذا الموقف، خاصة أنه قد يكون أول وآخر حج لنا كعائلة بسبب ظروفنا المادية والصحية؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
أهلا بك عزيزتي الأم الحاجة،
أولًا: يا حبيبة القلب، أُحب أن أُحيّي فيكِ وعيك التربوي، وحرصك على ألا تكون العبادة عند ولدك فرضًا قسريًّا يُنبت النفور بدلًا من القُرب، وهذا بحد ذاته يدل على بصيرتك وعمق فهمك لطبيعة هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها ابنك.
ثانيًا: دعيني أطمئنك من زاوية علم النفس التربوي:
المراهقة، وخاصة في عمر 16 عامًا، هي مرحلة تكوين الهوية الشخصية، وهي مرحلة يميل فيها الشاب إلى الاستقلال النفسي والانفصال الرمزي عن سلطة الأهل، وهو ما يُعرف بمفهوم Autonomy Seeking، أي سعيه لإثبات ذاته واختياراته، حتى لو كانت مخالفة لما تربّى عليه، لا عن رفض للإيمان، بل عن رغبة في اختبار نفسه وموقعه في العالم.
ثالثًا: لا يُمكننا بناء التدين في قلب المراهق بالإجبار، فقد قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، كما أن النبي ﷺ لم يُكرِه أحدًا على عبادة، بل كان يفتح القلوب أولًا بالرحمة، ثم يدعوها للطاعة؛ لأن الدين لا يُغرس بالعنف بل بالتعظيم القلبي.
رابعًا: دعيني أقترح عليكِ بعض الخطوات العملية التربوية، المستندة إلى أسس علم النفس الأسري:
1- التفاهم لا التهديد:
اجلسي مع ابنكِ جلسة ودية خالية من التوجيه، وابدئيها بتفهم مشاعره دون لوم؛ لأن هذه الاستراتيجية تُسمّى Empathic Listening، وهي إحدى أدوات Emotional Intelligence الذكاء العاطفي الفعّالة في تفكيك مقاومة المراهقين.
2- اربطوا الحج بالقيم لا بالأوامر:
اشرحي له أن الحج ليس "واجبًا فقط" بل رحلة تحوّل روحي، وأن الله يختار من يدعوه إلى بيته. أخبريه أن الله كتب له هذه الدعوة في هذا العمر، فهل يُعقل أن يرفض هديةً من الله؟ واطلبي رأيه: ماذا يتمنى أن يشعر به هناك؟ دعيه يتخيل التجربة، لا أن يراها قيدًا وعبئًا عليه.
3- قدّمي نموذجًا للحرية المسؤولة:
امنحيه مساحة حقيقية للاختيار، لكن مشروطة بالنتائج. قولي له: "لن نُجبِرك، لكننا نضع أمامك الخيار، وتذكّر أن كل اختيار له أثر على قلبك ومستقبلك. فهل تختار أن ترفض نداء الله؟"، بهذه الطريقة نستخدم ما يُعرف في التربية بـNatural Consequences والعواقب تكون طبيعية، بدلًا من العقوبات الصريحة.
4- ادمجيه في الاستعداد للحج:
اطلبي منه أن يختار لكم حقيبة الحج، أو يساعد في تنظيم الأغراض، أو يبحث عن أدعية الطواف. هذا ما يُعرف تربويًّا بـ Engagement through responsibility أي إشراك الأبناء في المسؤولية والمهمة التربوية لا فرضها عليهم.
خامسًا: إن رفض الذهاب الآن لا يعني رفضًا دائمًا للدين، بل هو رفض للحظة نفسية مرتبكة...
قال أحد الحكماء: "لا تحكم على الزهرة من شكل البذرة، فإن لها موعدًا ستزهر فيه ولو تأخرت".
أخبريه بلطف أنكما ذاهبان إلى بيت الله، وستدعوان له هناك دعاء الأم الصادق، لعل قلبه ينفتح ببركة تلك المشاعر المقدسة؛ فالدعاء عند البيت الحرام له أثر نفسي وروحي مضاعف.
* همسة أخيرة:
ثقي أن ما تغرسينه اليوم من احترام حريته، وإن بدا تمردًا، هو ما سيُثمر غدًا نضجًا وعودة بإذن الله. فالتربية ليست ردود أفعال لحظية، بل بناء طويل النفس، والله لا يُضيع تعب المربين الصادقين.
عودي من حجك، وأنتِ مطمئنة، فقد أديتِ أمانتكِ في الدعوة لا بالإكراه، بل بالحكمة والموعظة الحسنة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}... فما بالنا بأبنائنا ونحن نُربّيهم على نور!